"وما نحن إلاّ آنيةٍ من خزف تحمل هذا الكنز" (2 كور 4: 7)
1. صباح أمس الأوّل أسلمَ الرّوح المثلّث الرّحمة المطران كميل زيدان، بعد أن تعطّلت تدريجيًّا كلّ مقوّمات جسده، على مدى ثلاثة أشهر، ذاق خلالها أمرَّ الأوجاع، فيما باءت بالفشل كلّ محاولات الأطبّاء وتقنيات الطبّ المتقدّمة، ولكن من دون أن تنهار قوى الرّوح. فتمّت فيه كلمة بولس الرّسول التي كان يردّدها المطران كميل، وتتوّج ورقة نعيه: "وما نحن إلاّ آنيةٍ من خزف تحمل هذا الكنز" (2 كور 4: 7).
2. ولئن بان المطران كميل بجسده، الموصوف بالرّياضيّ، ضعيفًا كأنّه من خزف، فإنّه كان بروحه مستعدًّا ليحمل بمسؤوليّة الكنز الكهنوتيّ والأسقفيّ النّفيس الذي أوكله إليه المسيح الرّبّ، الكاهن الأسمى و"راعي الرّعاة العظيم" (1بط 5: 2). كان قويًّا بإيمانه وروحانيّته ومؤهّلاته العلميّة، وبخصاله الإنسانيّة والكهنوتيّة والرّاعويّة والإداريّة. بوفاته السّريعة تخسر أبرشيّة انطلياس المترمّلة أبًا محبًّا وراعيًا متفانيًا ومدبّرًا حكيمًا، وسينودس أساقفتنا المقدّس أخًا مخلصًا وعضوًا فاعلاً، والهيئة التنفيذيّة في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان رئيسًا جديرًا متفانيًا. وبغيابه يترك جرحًا بليغًا في قلوب أشقّائه وشقيقتيه وعائلاتهم، وأهالي القصيبة الأعزّاء.
3. تربّى في بيتٍ مسيحيّ مارونيّ، بيت المرحوم زعيتر زيدان، وفي أسرةٍ ازدانت بالوجوه الكهنوتيّة والرّهبانيّة والاسقفيّة. وتنشّأ فيها على عاطفة المودّة الأخويّة لأشقّائه الثلاثة وشقيقتيه وأولادهم. وآلمته في العمق وفاة شقيقه فريد وابن شقيقه فؤاد الشابّ فوزي. فكان لعائلاتهم الوجه المعزّي.
دخل المدرسة الإكليريكيّة في غزير، وتابع فيها دروسه الثانويّة وتلقّى أسس التّربية الكهنوتيّة، وواصل دراسة الفلسفة واللّاهوت في جامعة الرّوح القدس – الكسليك، وسيم كاهنًا في مثل هذا اليوم، 23 تشرين الاوّل 1971 بوضع يد المثلَّث الرحمة المطران الياس فرح، الذي أرسله لمتابعة دروسه العليا في الفلسفة واللّأهوت في الجامعة الكاثوليكيّة بواشنطن حيث نال شهادة الدكتورا.
4. بدأ خدمته ونشاطاته الكهنوتيّة سنة 1980، فتوزّعت بين تعليميّة وإداريّة وكنسيّة وراعويّة. فعلى صعيد التّربية والتّعليم، تولّى في مدرسة مار يوسف قرنة شهوان مهمّة نائب رئيس ثمّ رئيس في فترات متقطّعة لمدّة ستّ عشرة سنة، ارسى خلالها الاسس لتربية متينة وعلم ورفيع. وفي كلّ من الجامعة اللّبنانيّة، وجامعة الرّوح القدس - الكسليك، أُسند إليه تعليم مادّة الألسنيّة العامّة وعلم التّأويل. وشغل منصب أمين عامّ المدارس الكاثوليكيّة، والعضويّة في رابطة المدارس الخاصّة المسيحيّة والإسلاميّة، ومثَّل المنطقة العربيّة في الأمانة العامّة للمكتب الدوليّ للمدارس الكاثوليكيّة، ثمَّ تولّى رئاسته لمدّة ثلاث عشرة سنة. وعُيّن عضوًا في مجلس إدارة صندوق التعويضات للمدارس الخاصّة.
وعلى الصّعيد الرّاعويّ، فقد خدم في أكثر من رعيّة، منها في الولايات المتّحدة الأميركيّة مثل رعية سيّدة لبنان في واشنطن، ومار شربل في بورتلند (اريغان)، وفي لبنان رعيّة مار أشعيا برمّانا. وأسَّس رعيَّة القيامة في الرّابية وبنى مع ابنائها هذه الكنيسة الجميلة التي سهر بدقة على تفاصيلها. وكنا على موعد معه في الايام المقبلة لتبريك ايقونتها. اننا في هذه الكاتدرائية العزيزة على قلبه نرافقه اليوم في رحيله الى بيت الآب.
وعلى صعيد الإدارة، أُسندت إليه في الأبرشيّة رئاسة لجنة الفنّ الكنسيّ ومنسّقيّة مشاريع الرّعايا، ومهمّة نائب عامّ؛ وفي الكنيسة عُيّن مرشدًا عامًّا لجمعيّة مار منصور دي بول، ومديرًا عامًّا للمركز المارونيّ للتّوثيق والأبحاث، ورئيسًا للّجنة الأسقفيّة للمدارس، وأخيرًا رئيسًا للهيئة التّنفيذيّة في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان.
5. لقد تعاون بروح الطّاعة الكهنوتيّة مع المثلَّث الرّحمة المطران الياس فرح، ثمّ مع خلفِه سيادة أخينا المطران يوسف بشاره الذي وجد فيه خيرَ معاونٍ ونائبٍ عامّ. فحقّقا معًا نهضةً كبيرة في الأبرشيّة على كلّ صعيد، حتّى باتت أبرشيّةً نموذجيّةً. وعندما قدَّم المطران يوسف استقالته من إدارتها بداعي العمر القانونيّ، احاطه الاحترام والعناية الكاملتَين في الحياة معًا بكلّ أخوّة.
بفضل ما تميزت به شخصيته من صفات وقدرات ادارية وتربوية وراعوية، وفضائل كهنوتية واستعدادات داخلية قلبية وروحية، انتخبه سينودس اساقفة كنيستنا المقدس معاونًا ونائبًا بطريركياً سنة ٢٠١١، وقد سررنا بالتعاون معه في بداية خدمتنا البطريركية لما حقّقه من انجازات ادارية وعمرانية في الكرسي البطريركي، وبخاصة تنظيم مكاتب الدائرة البطريريكية وامانتها العامة.
وبعد سنة، عام ٢٠١٢ سُرَّ المطران يوسف والأبرشيّة كهنةً ورهبانًا وشعبًا بانتخاب المطران كميل خلفًا له، لكونه "يعرف خرافه وخرافه تعرفه" (يو14:10)، ويعرف بكل دقّة وتفاصيل الرّعايا والأوقاف وحاجاتها، فواصل النّهضة الرّوحيّة والرّاعويّة والإداريّة. ونشأت بينه وبين الجسم الكهنوتيّ مشاعرُ محبّة، وتعاونٌ مخلِص. ونَعِم بثقة كلّ أبناء الأبرشيّة ومحبّتهم واحترامهم لشخصه ولتوجيهاته وقراراته.
6. لقد أدّى المطران كميل رسالته الكهنوتيّة والأسقفيّة كاملةً. واليوم في الذّكرى الثّامنة والأربعين لرسامته الكهنوتيّة والثّامنة لأسقفيّته، ينتقل إلى بيت الآب في السّماء ليسلّم للمسيح الرّبّ كنزه ناصعًا ومجمَّلاً، وينضمَّ إلى طغمة الأحبار الأنقياء في مجد السّماء، ويشفعَ، بملء الكهنوت إلى الأبد، بالكنيسة والأبرشيّة والعائلة.
رحمه الله وسكب على قلوبكم بلسم العزاء، وعوَّض على كنيستنا والأبرشيّة برعاةٍ صالحين.
المسيح قام! حقًّا قام!